«7 أيام» تقتحم عالم الأرمن وتحاورهم عن حياتهم ومُجتمعهم المُغلق

«لم تلفظ مصر من أتاها ويأتيها راجيًا الخير، عاشت ومازالت على أرضها كلُّ أهل الديانات السَّماوية وكلُّ الأجناس، أعطتهم جميعًا حنانها وآوتهم بين أحضانها حين طردتهم ظروفهم القاسية سياسيًّا واقتصاديًّا وجغرافيًّا واجتماعيًّا، وهناك الآلاف الذين جاءوا إليها فاستوطنوا فيها ولم يتمكنوا من فراق

معشوقتهم وفضَّلوا أن يبقوا أسرى هَوَاها عن الرجوع إلى وطنهم الأم».. كانت هذه الكلمات مقدمة الدكتور محمد رفعت لكتاب «أرمن الإسكندرية ودورهم فى الحياة المصرية».
إنهم أرمن مصر الذين ساهموا فى نهضتها الأولى مع مُؤسِّس دولتها الحديثة محمد على باشا، والذين مازالوا ينعمون فى الجنة المصرية كمواطنين صالحين لها، محافظين على هُويَّتهم، غير ناسين أوجاع الماضى الذى فاق قرنًا من الزَّمن على مَنْ قُتلوا من أجدادهم.
حاولنا أن نغوص فى أعماق حياة الأرمن فى مصر، خصوصًا فى ظلِّ سعى الدولتين المصرية والأرمنية لدعم أطر التعاون بين البلدين، فنسمع من كلِّ عناصر المجتمع المُنغلق على ذاته والمُتمسك بمصريته كيف تكون حياتهم الدينية والسياسية والاجتماعية.

الدين مسيحى والهُويَّة أرمنيَّة

من مدينة كيليكيا الأرمنية انتقلت عائلته إلى حلب السورية عقب المذابح التى وقعت فى وطنه، واستقر فى الشام، وبلغته العربية الفصحى ولكنته الحلبية يتحدث المطران الذى يخالط بياضه الحمرة قائلاً بابتسامة عريضة: «أنا أرمينى حصلت على الجنسية المصرية».. هكذا استهلَّ المطران كريكور أوغسطينوس أسقف الإسكندرية الأرمن الكاثوليك حديثه، ساردًا لنا الأسس التى نشأ عليها الشعب الأرمنى، فالتسامح وتقبُّل الآخر ونشر السَّلام مفاتيح عبور الأرمن لقلوب المصريين وكلِّ الطوائف الأخرى، فكانت رسالة الكنسية نشر السَّلام والمحبة، والسَّعى لربط جسور المحبة بينهم وبين كلِّ طوائف المجتمع المصرى الكنسى وغيره.

«الكنيسة والمدرسة والنادى.. الأضلاع الثلاثة للأرمن فى مصر، فأرمينيا تعيش بداخلنا، أينما نعيش، سواء فى مصر أو فى أى من الدول الأخرى، نأخذ من مصر ونتأثر بها وبشعبها ونيلها، نتأثر بمشاكلها ونسعى لإيجاد حلول لها، لكوننا شعبًا مُحبًّا للسِّلم، يفعل كلَّ ما يخدم الإنسانية».. كلمات رددها الأسقف أشود مناتسكانيان مطران الأرمن الأرثوذكس بمصر فى حديثه عن حياة الأرمن التى لم تكن بالغة الصُّعوبة، فتجمَّع الأرمن والمصريون جميعهم تحت راية واحدة «الإيمان بالله»، فهم أخذوا من تعاليم الدين حب السَّلام والمحبة والتَّسامح فكان من السَّهل أن يقبلهم المجتمع المصرى بعد أن فتح أحضانه لهم، فكما يعيش أبناء المجتمع المصرى مسلمين ومسيحيين معًا فى سلام عاش الأرمن أيضًا مع المصريين.

أضاف: «علاقاتنا المتبادلة داخل مصر أكثر حرية وانفتاحًا، وبالإضافة إلى ذلك وخلاف أيام الآحاد والأعياد يقوم العديد من أعضاء جاليتنا بالصلاة داخل الكنائس الموجودة بالقرب من منازلهم أو مواقع أعمالهم، ويحدث بالمثل داخل كنيستنا، فيدخلها الكثيرون من غير الأرمن للصلاة وإيقاد الشموع دون اعتراض أو تفرقة، فالأرمن نسيج واحد».

السِّياسة خارج الكنيسة

يرى الأسقف كريكور أن كنيسة الأرمن لا علاقة لها بالسِّياسة، وأنها ترسل رسالة سلام ومحبة، لكنها فى الوقت ذاته تسعى للاعتراف الدولى بالإبادات التى حدثت بحق الأرمن فى وطنهم القديم على يد العثمانيين حتى لا تُكرر فى أىِّ مكان بالعالم، وحتى يحل السَّلام والأمن الدوليان، ويتحقق العيش المشترك بين كلِّ شعوب الأرض.

الأمر ذاته اتفق فيه الأسقف أشود حيث قال: «إن الإبداع وحب السَّلام والبُعد عن السِّياسة جعلنا شعبًا يكره المتاعب والحروب ويسعى لخدمة الإنسانية، وربما كان هذا السَّبب وراء ترحيب الشُّعوب بنا، كما أن قدرتنا على الإبداع جعلتنا نحقق الكثير من النَّجاحات فى أىِّ بلد نوجد به، فلنا مدارسنا وكنائسنا وعملنا، ولذلك نحن قادرون على العمل والإنتاج، وبالتالى فإننا يُرحَّب بنا دائمًا، أيضًا ليس لنا علاقة بالسِّياسة فهى أمر يخصُّ البلد وحده، وكلُّ بلد قادر على حماية حقوقه؛ لذلك ليس لنا شأن فى ذلك، فالحكومة قادرة على حلِّ مشاكلها بنفسها، وقديمًا وصل رجال من الأرمن لمناصب سياسية فى مصر الحبيبة، لكن الوضع الآن تغيَّر كثيرا، ونسعى إلى تأسيس العديد من المؤسسات الحيوية داخل مصر، حيث توجد الكنيسة من أجل إيماننا، وبجوراها المدرسة للحفاظ على لغتنا وأدبنا، والأندية للحفاظ على ثقافتنا وتقوية حياتنا الاجتماعية العامة، فهذه الخدمة الحيوية فقط لإكساب التربية والتعليم من أجل بناء إنسان طيب عادل كريم، والذى يستطيع أن يفيد ويساهم ليس فقط فى حياته الخاصة بل وفى الحياة العامة أيضًا».

قال رئيس الهيئة الوطنية الأرمنية د. أرمين مظلوميان: «إن حياتنا كأرمن دائمًا ما تكون فى أطر ضيقة؛ فنلتقى فى المدرسة والكنيسة والأندية، ولهذا فإننا دائمًا ما نكون داعمين للدولة المصرية فقط، ولا ندعم أنظمة ولا جماعاتٍ ولا أحزابًا، على الرغم من علاقتنا الطيبة مع مختلف الأحزاب مثل المصريين الأحرار والوفد وغيرهما، وشاركنا بأعداد قليلة فى ثورة 25 يناير عام 2011، قبل أن نشارك بأعداد كبيرة فى ثورة 30 يونيو التى أطاحت بحكم الإخوان، وكُنَّا نأمل فى الانتخابات البرلمانية الأخيرة أن يكون هناك مقعد برلمانى للتحدُّث باسم الأرمن، إلا أن هذا لم يكتمل، فى الوقت الذى ربما أدرس فيه خوض الانتخابات التشريعية المقبلة، فنحن الأرمن نؤدى الخدمة العسكرية ونمارس حقوقنا السياسية بمنتهى الأريحية دون أىِّ تمييز، فعلاقتنا بالحكومات المصرية المتعاقبة جيدة للغاية، وكذلك أعضاء مجلس النواب، ونجتمع معهم من حينٍ إلى آخر، خصوصًا فى الإفطار الرمضانى السَّنوى الذى ننظمه، كما أن التعاون بين البلدين الأرمنى والمصرى بدأ يؤتى ثماره بصورة كبيرة، فزيارة وزيرة التعاون الدولى والاستثمار سحر نصر لأرمينيا ولقاؤها الرئيس سيرج سركيسيان يُعدُّ استمرارًا لتعاون كبير بين البلدين، كما أن أكثر السُّياح الموجودين فى مدينة شرم الشيخ من الأرمن، إلا أن أبرز العقبات التى تواجهنا عدم وجود تأشيرات من مصر لدخول أرمينيا، أو خطوط جوية مباشرة، وهو ما نأمل فى تحسينه خلال الفترة المقبلة لتعزيز العلاقات المشتركة بين البلدين على جميع الأصعدة، كما نأمل فى اعتراف مصرى على المستويين الحكومى والشعبى بالمذابح التى ارتكبها الأتراك بأجدادنا، حيث قتلوا ما يفوق 1.5 مليون نسمة، وهجَّرونا من ديارنا، فكانت مصر حاضنتنا وهو ما نأمل فى استمراره لكونها وطننا الحالى والثانى بعد أرمينيا».

التَّعليم من 3 سنوات و«العربيَّة» أجنبيَّة

التقينا إحدى المعلمات اللاتى يعملن فى مدارس الأرمن، وهى «تالين ساكانيان»، وقالت: «تعليم الأطفال يبدأ فى مدارسنا من سن 3 سنوات، فهى المرحلة الرئيسية فى تشكيل فكرة الأطفال وتعزيز إدراكهم، فهم يتحدثون فى منازلهم اللغة الأرمنية التى تتحدث بها عائلتهم، ومجتمعهم المحيط بهم فى النادى، قبل أن تصل أعمارهم إلى 6 سنوات ويبدأوا دراسة مقررات وزارة التربية والتعليم، وتعلُّم اللغة العربية كأىِّ لغة أخرى، ويبدأ التلاميذ فى الصف الرابع الابتدائى بدراسة منهج الدراسات الاجتماعية، وبالتَّزامن يبدأون دراسة التاريخ الأرمنى، دون أن يتعارض الاثنان، وتتم زيادة قوة المقررات كلما ارتقى التلاميذ لمستوى دراسى جديد، وفى المرحلة الإعدادية يبدأ الطلاب فى تلقِّى معلومات أكثر عبر رحلات مُنظمة لأرمينيا للتبادل الثقافى والدراسى مع موطنهم الأصلى، فالمقررات هناك تعتمد بصورة كبيرة على دعم الفنون والثقافة والرياضة أكثر من المقررات الدراسية العلمية، وهو ما يُميِّز مدارسنا، وعقب انتهاء تلك المرحلة ينتقل الطلاب للمرحلة الثانوية وتزيد معدلات إدراكهم للتاريخ الأرمنى، ويجب على الطلاب النجاح فى المادتين إلا أنهما لا يُضافان إلى مجموع الثانوية العامة، وتتجه الكتلة الطلابية لشباب الأرمن فى عدة كليات بعينها مثل الإعلام والهندسة والتجارة وريادة الأعمال والعلوم السياسية».

اتفقت سيدة أرمنية تُسمَّى «نونينا» -تعمل راهبة- مع ما ذكرته المعلمة تالين، قائلة: «دور مدارسنا فى المقام الأول يتمثل فى الحفاظ على التراث والتعاليم واللغة الأرمنية وتوطيد العلاقات بين الناشئ الأرمنى ومجتمعه المصرى».

أما الأسقف أشود فقال: «إن الإيمان واللغة والثقافة أسلحتنا الثلاثة لتكون الحياة أسهل، ويكون الاندماج بين الأرمن وأىِّ شعب أسرع، فالجميع تحت راية واحدة ويؤمن بإله واحد، وهو ما يجعلنا نعزِّز من بناء جسور بين الأرمن وبعضهم البعض وغيرهم كذلك».. مضيفًا: «إن الكنيسة الأرمنية منبع للتعليم والثقافة والحفاظ عليهما، وأيضًا لنا مدارسنا الخاصة التى تُعد مركزًا حيويًّا لأبناء الأرمن لتعلُّم كلِّ ما يخصُّ أصولهم، فكانت مدرستنا كالوسديان نوباريان فرصة لأن يتعلم أبناؤنا اللغة الأرمنية وأصولها إلى جانب دراستهم لمواد وزارة التربية والتعليم المصرية، وتتبع المدرسة البطريركية المصرية بالقاهرة، لذلك فإن جميع المواد الدينية والتاريخية الأرمنية تقع تحت مسئوليتنا مباشرة».

الرياضة جزءٌ من الشَّخصيَّة الأرمنيَّة

تُّعد الرياضة الطريقة المثلى لبناء أجساد صحية وعقول نيرة، فما كان من الأرمن إلا أن أولوها اهتمامًا كبيرًا، ففضلوا عدة ألعاب بعينها أبرزها كرتا السلة والقدم، وتعمل الجالية الأرمنية على تنظيم بطولات سنوية لها سواء فى القاهرة أو الإسكندرية، كما تولى اهتمامًا خاصًّا بلعبة الشطرنج التى تُدرس فى المدارس الأرمنية من عمر 7 سنوات، وتعتبر أرمينيا وشعبها الأكثر حصدًا للبطولات فى تلك اللعبة.

انضم عدد من لاعبى الفرق الأرمنية إلى منتخب مصر لكرة السلة، كما شقَّ بعضهم طريقًا فى الإدارة الرياضية فعُيِّن الدكتور فيكين جيزمجمان عضوًا فى مجلس اتحاد كرة القدم المعيَّن الذى ترأسه الكابتن عصام عبدالمنعم عام 2004، واستكمل عمله فى المنظومة الكروية مع المهندس خالد عبدالعزيز فى تنظيم بطولة الأمم الأفريقية عام 2006، قبل أن يقرر الابتعاد عن عمله الكروى والتفرغ لمهنته كطبيب أسنان وكذلك خدمة الجالية الأرمنية فى مصر، عبر الجمعية الخيرية الأرمنية.

يقول جيزمجمان: «اهتمامنا فى الأساس ينصبُّ على دعم الأنشطة الرياضية والرقص الشعبى والفنون، فالأرمن أنجبوا من رحمهم ساسة ورياضيين وفنانين ساهموا فى رفع اسم وطنهم مصر، فسمحت لهم بالحفاظ على هويتهم الأرمنية دون السعى لمحوها بعكس ما يحدث لإخواننا فى المهجر أو بعض الدول الأخرى».

الحياة الاجتماعيَّة بين الانغلاق والانصهار

كان الانغلاق الطَّبيعة السَّائدة على الأرمن، فهم مجتمع مُنغلق على نفسه بحسب وصفه الدكتور أرمين مظلوميان، فللأرمن مدارسهم الخاصة بهم، وكنائسهم وكذلك أنديتهم، فحرصهم على التمسُّك بهُويتهم الأرمنية جعلهم حريصين على أن تبقى العلاقة وطيدة ببعضهم، ولا يعنى هذا انعزالهم إلا أن هذا الأمر طريقة للحفاظ على ترابطهم.

يتحدث رئيس الجمعية الخيرية الأرمنية العامة قائلاً: «إننا لسنا بمعزل عن المصريين فنحن جزء منهم، ونعمل فى عدة اتجاهات أبرزها تقديم الدعم المادى والمعنوى للأسر الأولى بالرعاية، وكذلك دعم الطلاب دراسيًّا، وتأريخ المذابح التى قام بها الأتراك بحق أجدادنا».

مازال زواج الأرمن ببعضهم هدفًا أساسيًّا للحفاظ على الهوية، وعلى الرغم من أن الزواج من بعضهم ليس إلزاميًّا فإنهم بالفعل لا يتزوجون سوى من أبناء وطنهم، إلا فى حالات قليلة إلى حدٍّ كبير، ففى رأى المطران أشود أن زواج الأرمن من غير أبناء وطنهم بوابة أخرى للانخراط والانصهار فى المجتمعات الأخرى، وربما يطمس الهُويَّة الأرمنية، قائلاً: «نحن الأرمن شعب مسالم وخلاق، لذلك فإننا أينما وُجدنا نفيد البلد الذى نوجد فيه، ونحرص على إفادة شعبه، فلا ننفصل عن حياة البلد الذى نقيم به، فكوننا أرمن نعيش فى مصر يعنى أننا مصريون %100 ونحرص على إفادة البلد ونهتم بمشاكله ونسعى لحلها، إلا أن هذا لم يمحِ هويتنا فنحن نحتفظ بالأرمن بداخلنا، فالجهود التى نبذلها للحفاظ على هويتنا وثقافتنا ولغتنا التى نتحدت بها لا يتعارض مع الاندماج والاتِّحاد فى الحياة المصرية، وأيضًا نحترم الشعب المصرى ونستفيد أيضا من نجاحه، فالأرمن جزء لا يتجزأ من المجتمع المصرى».

قال المستشار منصف نجيب الذى عمل قاضيًا بمجلس الدولة المصرى: «إن الاندماج مع المجتمع المصرى حدث سريعًا، وحصل أهالينا على الجنسية المصرية عام 1919 بمقتضى قانون الجنسية، وأصبحنا مصريين، وهناك عدد كبير مزدوج الجنسية أو على الأقل الهُوية، فنحن لنا ما للمواطنين المصريين من حقوق وعلينا ما عليهم من واجبات كالتجنيد والعمل السياسى، طالما انطبقت علينا شروط القانون».

الثَّقافة

تُعدُّ الثَّقافة حجر الزاوية للأرمن المصريين؛ حيث تُنظم رحلات لوطنهم الأم بصورة منتظمة لمعرفة تاريخ بلادهم خوفًا عليه من الاندثار، كما يعملون على رفع معدلات تثقيفهم ذاتيًّا، وفى هذا الشأن يقول أكبر مُعمرى الأرمن الذى يناهز الـ86 عامًا: «أُدعى فارت الكسنيان، ووُلدت عام 1931، فوالدى كان يعمل ضابطًا بالجيش العثمانى، ثم سافر إلى اليونان، ثم جاء إلى مصر عام 1926 عقب المذابح التركية».

أضاف: «بدأتُ العمل عام 1947 فى كلِّ المهن من تنظيف المنازل إلى مسح أحذية، فالرزق لا يحتاج من يتكبر عليه، وهذا هو عيب المصريين أنهم يرفضون العمل ببعض المهن، ثم بدأتُ العمل فى مهنة صناعة الكئوس والأطباق، وصار لدىَّ مصانع مخصصة لذلك، فنحن ككلِّ المصريين يوجد بيينا مختلف الفئات والطبقات، ولكننا دائمًا نحمد الله، وقررنا البقاء فى مصر وطننا الجديد، إلا أن هناك بعض الأرمن الذين لم يتحملوا العيش فى مصر بسبب ما أسموه بالروتين الإدارى فى بعض المؤسسات عام 1948 فعادوا إلى أرمينيا، وقابلتهم لاحقًا فى دول المهجر وأبدوا ندمهم للرحيل عن مصر».

تابع الكسنيان حديثه قائلاً: «اعتمدت فى حياتى على التعلُّم الذاتى فتركت التعليم الحكومى وعمرى 16 عامًا وبدأت بتعليم نفسى ذاتيًّا، وحصلت على بعض الدروس الخصوصية حتى أصبحت أتقن 5 لغات فرنسية وإنجليزية وإيطالية وعربية وأرمينية، فالثقافة تمثل لى أحد أبرز متع الحياة، فقرأت فى الطب والأدب وغيرهما».

تجاذب أطراف الحديث رجل بدا على وجهه ملامح الزمن قائلاً: «اسمى أرمان، وكنت أعمل مصورًا عقب تخرجى فى كلية العلوم بالجامعة الأمريكية، فعملت على تصوير البورتريهات وإقامة المعارض الفنية، وها أنا أكسر حاجز الثمانين عامًا وأستعد لإطلاق معرضى الجديد الشهر الحالى».

يهتم الأرمن بالفنون كما يهتمون بالثقافة فتجد تنظيمًا لحفلات الرقص الشعبى الأرمنى، وكذلك الألحان والأشعار الأرمنية، ما يُعزِّز من ترسيخ مفهوم الهُويَّة فى نفوس الأرمن بمصر، كما يُعزِّز مفهوم ثقافة التَّسامح التى تعمل على ربط جسور المحبة بين الأرمن وكلِّ طوائف المجتمع المصرى.

الأرمن والأزهر

تمتاز العلاقة بين الأرمن والمؤسسات الدينية فى مصر بكونها علاقات وطيدة قائمة على الودِّ والمحبة، فالأزهر كان أحد أكبر الداعمين للأرمن فى محنتهم أثناء وعقب المذابح التركية، حيث أصدر شيخ الأزهر سليم البشرى فتوى بخط يده تُحرِّم تلك المذابح عام 1909، والتى تُعدُّ إحدى أبرز الوثائق التى تشير للاعتراف العربى بالمذابح، وهو ما أشار إليه دكتور أرمين.

قال الأسقف أشود: «إن الأزهر والكنيسة يجب أن يتكاتفا معًا لنشر الحُبِّ بين أبناء الوطن الواحد، لأنه وحده القادر على أن يجعل حياة المسلمين والمسيحيين معًا يسيطر عليها السَّلام، فبالطبع يأتى الكثير من الأوقات تكون العلاقة بينهم مضطربة وغير مستقرة ولكنها تعود لطبيعتها سريعًا، ولهذا فإن التواصل بيننا وبين كل الطوائف مستمر».

أكد الأسقف كريكور على تواصله الدائم مع مؤسسة الأزهر وشيخها ووزارة الأوقاف التى توجد بالقرب من كنيسته بوسط القاهرة، وتمتاز العلاقة بالتسامح والود والمحبة، وذلك ما زاد عقب الزيارات المتبادلة بين بابا الفاتيكان المحب للسلام راعى الشعب المسيحى فى العالم وشيخ الأزهر أحمد الطيب.

وهكذا فإن الأرمن مازالوا متمسكين بمصريتهم وجذورهم آملين فى إنجاح معادلتهم الصَّعبة المتمثلة فى الانتماء لمصر الهَوَى والتَّمسُّك بأرمنية الهُويَّة، مع الحفاظ على تعدادهم فى مصر الذى تضاربت الأرقام فى شأنه، والتى أشارت إلى أن عددهم كحدٍّ أدنى 3000 نسمة، و14 ألفًا كحدٍّ أقصى، وفى الوقت نفسه فإن ثقافة الحفاظ على الانغلاق بين أفراد الجالية فى مصر والانصهار مع المجتمع أصبحت جزءًا من نسيجها الخالد.

 

محرر «7 أيام» مع د. أرمين مظلوميان